فصل: القول الثاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.أن التوسعة في الألفاظ لا في المعاني:

2- أن هذه التوسعة إنما كانت في الألفاظ، ولم تكن في المعاني والأحكام وأنها كانت في المعنى الواحد يقرأ بألفاظ مختلفة؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ كلّا من المختلفين على قراءته، بل واستحسان قراءة كل بقوله: «كلاكما محسن».
وغير معقول أن يكون اختلافهم في المعاني والأحكام، ثم يوافق النبي كلا على قراءته ويستحسنها.

.أن التوسعة في القراءة في حدود ما نزل به جبريل:

3- أن هذه التوسعة والإباحة في القراءة بأي حرف من الحروف السبعة إنما كانت في حدود ما نزل به جبريل، وما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بدليل أن كلّا من المختلفين كان يقول: أقرأنيها رسول الله، وأن النبي كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله: «هكذا أنزلت» كما في حديث عمر وهشام، وما يفيده لفظ الإنزال الذي جاءت به جميع روايات الحديث، وليس ذلك إلا التوقيف بالسماع من الرسول، وسماع الرسول من جبريل.
ولا يتوهمن متوهم أن التوسعة إنما كانت باتباع الهوى والتشهي، فذلك ما لا يليق أن يفهمه عاقل، فضلا عن مسلم؛ إذ الروايات الواردة ترده وتبطله، ولو كان لكل أحد أن يقرأ بما يتسهل له من غير تلق وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبدل ذلك من تلقاء نفسه لذهب إعجاز القرآن، ولكان عرضة أن يبدله كل من أراد حتى يصير غير الذي نزل من عند الله، ولما تحقق وعد الله سبحانه بحفظه في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} واللوازم كلها باطلة، فبطل ما أدى إليها، وثبت نقيضه وهو أن التوسعة كانت في حدود ما أنزل الله.
وكيف يتفق هذا الوهم الباطل، وقول الحق تبارك وتعالى: {قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة يونس: 15- 16].

.أن الأمة مخيرة في القراءة بأي حرف:

4- أن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف منها:
من غير إلزام بواحد منها، وأن من قرأ بأي حرف منها فقد أصاب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر: «فاقرءوا ما تيسر منه»، وقول جبريل عليه السلام في حديث المراجعة: فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا.
وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر كلّا من المختلفين على قراءته، ولم يرجح قراءة واحد على الآخر، بل استحسن قراءة كل.

.أن التوسعة كانت بعد الهجرة:

5- أن التوسعة على الأمة لم تكن في مبدأ الدعوة، بل كانت بعد الهجرة وبعد أن دخل في الإسلام كثير من القبائل غير قريش، فكانت الحاجة ماسة إلى هذا التسهيل، وتلك التوسعة، يشهد لهذا حديث مسلم: أن النبي كان عند أضاة بني غفار... الحديث، وهي بالمدينة النبوية، كما ذكرنا آنفا.

.أن التوسعة مظهر من مظاهر الرحمة والنعمة:

6- أن هذه التوسعة مظهر من مظاهر الرحمة والنعمة، فلا ينبغي أن تكون مصدر اختلاف ونقمة: أو أن تكون مثيرة للشك، أو مضعفة لليقين، فقد حذرهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه من الاختلاف، كما في حديث ابن مسعود، ومن الشك في القرآن كما في حديث عمرو ابن العاص فلا تماروا فيه، وفي رواية لابن جرير الطبري، من حديث أبي جهيم: «فلا تماروا في القرآن؛ فإن المراء فيه كفر».
7- حرص الصحابة رضوان الله عليهم البالغ على القرآن الكريم، وغاية تحوطهم في المحافظة عليه، ونفي الريب والتغيير والتبديل عنه؛ وبحسبك شاهدا على هذا ما كان من الفاروق عمر رضي الله عنه مع هشام بن حكيم حتى هم أن يأخذ بتلابيبه وهو في الصلاة، وما كان من أبي وابن مسعود، وعمرو بن العاص مع غيرهم، وأن الصحابة إنما اختلفوا وتنازعوا في قراءة بعض الألفاظ، ورفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلموا: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلما علموا بهذه الحقيقة اطمأنوا، وقطع بينهم دابر الشقاق والمراء.

.الأقوال في المراد من الأحرف السبعة:

اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة، وقد أوصلها ابن حبان إلى خمسة وثلاثين قولا، ونقلها عنه السيوطي في الإتقان، وسنذكر أشهر هذه الأقوال وأهمها، ونناقش كل قول مناقشة موضوعية خالية من التعصب لقول، أو التحيف على آخر، على ضوء ما قدمنا من روايات، وما استنتجناه من أصول، ومن غير نظر إلى قائله ومنزلته، والحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق، ومن الله نستمد التوفيق والعصمة من الزلل.

.القول الأول:

إن الحديث من المشكل الذي لا يدرى معناه؛ لأن الحرف يصدق في لغة على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة، فهو مشترك لفظي لا يدرى أي معانيه هو المراد.
وهذا القول نسب إلى أبي جعفر محمد بن سعدان النحوي، ونحا نحوه الحافظ السيوطي في شرحه على سنن النسائي حيث قال- بعد ذكر الحديث-: في المراد به أكثر من ثلاثين قولا، حكيتها في الإتقان، والمختار عندي: أنه من المتشابه الذي لا يدرى تأويله.
وهذا الرأي بمعزل عن التحقيق؛ فإن مجرد كون اللفظ مشتركا لفظيّا لا يلزم منه الإشكال ولا التوقف، وإنما يكون ذلك لو لم تقم قرينة تعين بعض المعاني، أو ترجح بعضها على بعض، وهنا قامت القرينة التي تعين المراد؛ إذ لا يصح إرادة حرف الهجاء؛ لأنه مركب من جميع حروف الهجاء، ولا يصح إرادة الكلمات لأن كلماته تعد بالألوف، ولا يصح إرادة المعنى، لأن معانيه تزيد عن سبعة فتعين أن يكون المراد: الجهة، والجهة تأتي بمعنى الوجه، ويشهد لهذا الاستعمال: مجيء الحرف بمعنى الوجه قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} فقد قال بعض المفسرين فيه: على ضعف من العبادة، أو على وجه واحد: وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، كما في تفسير القرطبي.
وإذا كان معنى الحرف غير مشكل فليبحث عن المراد منه في حدود المنقول والمعقول.

.القول الثاني:

وهو أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتوسعة، ولفظة السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين.
وهذا الرأي أيضا بعيد من الصواب؛ إذ لا تشهد له رواية من الروايات التي أسلفناها، ويرده ما ورد في حديث الصحيحين: «فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».
وحديث النسائي وفيه: فقال ميكائيل: «استزده حتى بلغ سبعة أحرف» وفي حديث أبي بكرة: «فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة» فهذه الروايات صريحة في أن المراد الحقيقة وانحصار الحروف في سبعة.

.القول الثالث:

أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة، تختلف فيها الألفاظ والمباني مع اتفاق المعاني، أو تقاربها، وعدم اختلافها وتناقضها، وذلك مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، ونحوي، وقصدي، وقربي، فإن هذه ألفاظ سبعة مختلفة يعبر بها عن معنى واحد، وهو طلب الإقبال.
وليس معنى هذا أن كل كلمة كانت تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات، بل المراد: أن غاية ما ينتهي إليه الاختلاف في تأدية المعنى هو سبع، فالمعنى الذي تتفق فيه اللغات في التعبير عنه بلفظ واحد يعبر عنه بهذا اللفظ فحسب، والذي يختلف التعبير عنه بلفظين، وتدعو الضرورة إلى التوسعة يعبر عنه بلفظين، وهكذا إلى سبع.
ومن أمثلة ذلك من القرآن قوله تعالى: {إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} [يس: 29] وقد قرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة.
وقوله: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} قد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {فامضوا إلى ذكر الله}، ومثل ما روى ورقاء عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا}، {للذين آمنوا أمهلونا}، {للذين آمنوا أخّرونا}، {للذين آمنوا ارقبونا}؛ وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ: {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}، {سعوا فيه}.
ولا يقال: إن بعض هذه الحروف لا يقرأ بها اليوم؛ لأنا نقول: إن هذا هو معنى الأحرف السبعة، ونحن لا ندعي بقاءها كلها إلى اليوم كما ستعلم عن قريب.
وهذا الرأي يتفق هو والروايات السابقة الدالة على اختلاف الصحابة في كلمات من القرآن، وتنازعهم، ورفع الأمر إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ثم إقرار الرسول كلا على قراءته، ويوافق الأصول التي استنتجناها من هذه الروايات؛ فالغرض من النزول على سبعة أحرف التيسير، ورفع الحرج عن الأمة بالتوسعة في الألفاظ ما دام المعنى واحدا، فقد كانوا أمة أمية، وكانت لغاتهم متعددة، وكان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وتغيير للعادة، فمن ثم جعل الله لهم متسعا في اللغات بقراءة المعنى الواحد بألفاظ مختلفة.
وقد استمر الأمر على هذا حتى كثر فيهم من يقرأ ويكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لسان قريش، ولاسيما بعد أن صارت لقريش السيادة الدينية والدنيوية معا، وقدروا على النطق بلغة قريش، التي هي أعذب اللغات وأسهلها وأطوعها للألسنة؛ فلم يسعهم أن يقرءوا بخلافها، ولاسيما وقد زالت الضرورة وأصبحت التوسعة في القراءة بالأحرف السبعة مثار اختلاف وتنازع، فقد حدث في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه أن اجتمع أهل الشام مع أهل العراق في غزوة أرمينية وكانت قراءاتهم مختلفة، فصار يخطّئ بعضهم بعضا، ويقول كل منهم: حرفي الذي أقرأ به خير من حرفك، فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك المسلمين قبل أن يختلفوا في كتابهم اختلاف اليهود والنصارى، وحدث أيضا: أن كان المعلم يعلم قراءة الرجل، والآخر يعلم قراءة رجل آخر، فصار الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع هذا الخلاف إلى المعلمين، وكاد أن يكفر بعضهم بعضا، فقال عثمان: أأنتم عندي تختلفون فمن نأى من الأمصار كان أشد اختلافا، فرأى الخليفة الراشد عثمان- ونعم ما رأى- على ملأ من الصحابة، ومشورة من أهل الرأي منهم أن يجمع الناس على حرف واحد، حتى تضيق شقة الخلاف، ويقل التنازع فجمع المصحف، وكتبه على حرف واحد وهو حرف قريش، ونسخ منه نسخا أرسل بها إلى الأمصار، وحرق ما عدا هذا المصحف الذي أمر بجمعه، وعزم على كل من كان عنده مصحف يغاير المصاحف العثمانية أن يحرقه، فاستوثقت له الأمة بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فالتزمت القراءة بحرف قريش؛ وتركت القراءة بالأحرف الستة الباقية، التي عزم عليها إمامها العادل الراشد أن تتركها امتثالا لأمر الإسلام، في طاعة أولي الأمر، ورعاية منهم لمصلحتهم ومصلحة الأمة ممن يأتي بعدهم حتى درست معرفة هذه الأحرف الستة من الأمة وتعفت آثارها فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها، وعفاء آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منهم لصحتها وصحة شيء منها، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الباقية.
وإلى هذا الرأي ذهب الجماهير من سلف الأمة وخلفها فذهب إليه الأئمة سفيان بن عيينة، وابن جرير الطبري، ودافع عنه دفاعا حارّا في مقدمة تفسيره والطحاوي، وابن وهب، وخلائق كثيرون، واختاره القرطبي، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء، وهذا الرأي هو الذي أختاره وأميل إليه.